من فقهائنا 2: الصدوق الأول علی بن بابویه القمی (2)

لقد تقدم البحث – في القسم الاول من المقال – حول معالم شخصية الصدوق الاول علي بن بابويه قدس سره.. و نتاجه العلمي و ما خلفه من كتب و مؤلفات.. و قد انتهى بنا الحديث عن رسالته الى ولده..

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة علي بن بابويه:

ان رسالة علي بن بابويه او الشرائع – كما في قول النجاشي – هي رسالة فقهية كتبها الصدوق الاول الى ولده ابي جعفر محمد بن علي الصدوق و هو في عنفوان شبابه ظاهرا، اذ لم يكن عمر الصدوق حين وفاة والده قد تجاوز الثانية و العشرين على ابعد التقادير، لما تقدم من ان لقاء الاب مع الحسين بن روح رضي الله تعالى عنه كان بحدود سنة 306 ه و هو لم يرزق ولدا بعد، فلو فرض ان الصدوق ولد بعد ذلك بسنة واحدة لكان عمره يوم وفاة ابيه هو ما ذكرناه. اما متى كتبت هذه الرسالة بالضبط؟ هل في اواخر حياة الاب ام بعد ولادة الصدوق مباشرة خشية من مفاجاة الموت – كما فعل الزراري في رسالته -؟ و في اي مكان كتبت في قم او غيرها؟ و اين كان الابن حين ذاك في قم او خارجها؟

و من حملها اليه، و هل هي وصية الاب الى الابن ثم اشتهرت فيما بعد باسم الرسالة؟ الحق، ان الاجابة على جميع هذه الاسئلة بنحو القطع غير ممكن; لافتقارنا الى النصوص التي يطمان اليها. ولكن من مراجعة اسفار الشيخ الصدوق يعلم انه لم يخرج من قم قبل وفاة والده، و انما بدات اسفاره و رحلاته بعد ذلك بمدة، و قد استقصينا اسفاره و رحلاته من خلال تصريحاته بها في ثنايا اسانيد كتبه فلم نجد ما يشير الى مغادرته قم في حياة والده. و عليه، يمكن احتمال عكس ما احتمله بعض الاعلام – من انها كتبت في قم و الولد خارجا – و ذلك بالنظر الى لقاءات الوالد المتكررة مع وكلاء الامام الحجة(ع) في بغداد، فلعله كتبها في بغداد في السنة التي استاذن فيها لزيارة البيت الحرام و هي سنة 323ه التي استجازه فيها التلعكبري فخرج عدم الاذن اولا للخوف عليه من القرامطة، ثم بعد السؤال ثانية خرج الاذن مع النصح ان يكون في آخر القافلة. و هذا يشعر انه كان في بغداد طيلة تلك الفترة، اذ من البعيد جدا ان يستاذن في الحج من قم ثم يرده المنع من بغداد ثم يسال ثانية من قم فيرد الاذن من بغداد ايضا ثم يتاهب للسفر، كل ذلك قبيل موسم واحد مع البعد الشاسع بين قم و بغداد الذي قد لا يطوى في ذلك الحين باقل من شهر او شهرين. فلعل الشيخ كتبها اذ ذاك و هو في بغداد كوصية لولده، خوفا من ان يدركه الموت في الطريق الى الحج او الاياب منه، و ارسلها بيد العائدين الى قم من بغداد، فكانت وصية و رسالة. اما ما يدل على كونها رسالة، فقد وصفت هكذا في كتب الرجال كما تقدم، و نقل عنها الصدوق بعنوان (رسالة) كما سياتي. و اما ما يدل على كونها وصية، فان الشيخ آقا بزرك ذكر وصول نسخة منها الى زمان السيد حسن الصدر، و نقل في الذريعة اولها، و فيها ما يشير الى كونها وصية رحمه الله اذ جاء فيها قوله:

«… و اوصيك بما اوصى به ابراهيم بنيه، و يعقوب: يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا و انتم مسلمون. (الى قوله بعد وصايا كثيرة): اخصك يا بني على اقتناء دين الله عزوجل… الخ». كما ان السيد ابن طاووس ذكر في وصيته لولده محمد المطبوعة بعنوان (كشف المحجة لثمرة المهجة) ما يدل على كونها وصية، فقال: «و وجدت جماعة ممن تاخر زمانهم عن لقائه قد اوصوا بوصايا الى اولادهم دلوهم على مرادهم، منهم: محمد بن احمد الصفواني، و منهم علي بن الحسين بن بابويه… ». هذا، زيادة على نقل الصدوق عنها في كتبه تارة بعنوان: (رسالة ابي) و اخرى بعنوان (وصية ابي) كما سياتي، و لم ينص احد – في حدود ما اطلعت عليه – بان للصدوق وصية و رسالة من ابيه. و لعل من المهم هنا ان نذكر بان الكتاب المعروف منذ زمن المجلسي (رحمه الله تعالى) الى اليوم باسم «الفقه الرضوي» ذهب بعضهم الى كونه هو الرسالة بعينها، و قد افردت لهذه المسالة رسائل خاصة، و طال النزاع فيها، و في كتاب خاتمة المستدرك بحث مفصل عن هذا الموضوع، ناقش فيه جميع حجج القائلين بان الفقه الرضوي هو رسالة علي بن بابويه، و الذي يعتقده المحدث النوري: ان املاء بعض الفقه الرضوي هو من الامام الرضا(ع)، و الباقي لاحمد بن محمد بن عيسى الاشعري، و هو داخل في نوادره.

اهمية الرسالة فقهيا:

تظهر اهمية رسالة علي بن بابويه الى ولده الصدوق من خلال اهتمام الشيخ الصدوق بها من الناحية الفقهية اهتماما بالغا، فقد انزلها منزلة النص في كتبه الفقهية، لا سيما في كتابه من لا يحضره الفقيه الذي صرح في مقدمته قائلا:

«و لم اقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه، بل قصدت الى ايراد ما افتي به و احكم بصحته، و اعتقد فيه انه حجة فيما بيني و بين ربي تقدس ذكره و تعالت قدرته، و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول و اليها المرجع…». و قد وجدت الشيخ الصدوق في بعض الاحيان يعنون ابوابا في الفقيه و لا يذكر فيها غير اقتباساته من الرسالة، و قد يفتي احيانا على طبق ما في الرسالة من دون التصريح بالاقتباس منها كما سنفص له في موارد الاقتباس من الرسالة: فيما يلي تفصيل موارد الاقتباس من الرسالة في كتب الصدوق، اكملين ان يتصدى لجمعها و تحقيقها بالاستفادة من كتب الفقه الاخرى التي اشتملت على نصوص كثيرة من الرسالة، خشية من ضياع نسختها الواصلة الى زمان السيد حسن الصدر فيما بيناه سابقا، و هي:

1 – الفقيه 1: 35 ب 13، و 1: 46 – 47 ب 19، و 1: 49 بعد الحديث 195 ب 19، و 1: 50 بعد الحديث 195 ب 20، و 1: 81 بعد الحديث 358 ب 38، و 1: 102 بعد الحديث 474 ب 25، و 1: 106 بعد الحديث 494 ب 25، و 1: 170 بعد الحديث 801 ب 39، و 1: 174 بعد الحديث 827 ب 40، و 1: 177 بعد الحديث 839 ب 40، و 1: 181 بعد الحديث 857 ب 42، و 1: 261 بعد الحديث 1118 ب 56، و 1: 261 بعد الحديث 1191 ب 56، و 1: 267 بعد الحديث 1223 ب 57، و 1: 314 ب 75 و ليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و 1: 354 ب 83 تحت عنوان: (صلاة اخرى للحاجة)، و 1: 356 بعد الحديث 1558 ب 84، و 2: 10 بعد الحديث 27 ب 5، و 2: 62 بعد الحديث 269 ب 29، و 2: 118 بعد الحديث 511 ب 59، و 2: 304 ب 209 و ليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و 3: 39 ب 28 و ليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و 3: 333 بعد الحديث 1613 ب 162، و 3: 334 ب 165.

2 – المقنع ص 43 في ابواب الطهارة، و ص 112 باب الجماعة و فضلها، و ص 151 باب صلاة الاستخارة، و ص 273 باب الحج، و ص 361 باب المكاسب و التجارات، قال: «اوصاني والدي علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رحمه الله فقال في وصيته: اتق الله يا بني… الخ».

و هذا هو المورد الاول الذي عبر فيه عن الرسالة بانها وصية، فلاحظ، و ص 363 الباب السابق، قال: «و قال والدي رحمه الله في وصيته الى…»، و ص 375 باب الدين و فيه ما في الباب السابق، و ص 400 باب القضاء و الاحكام، و ص 401 باب القضاء و الاحكام، و ص 403 الباب السابق، و ص 453 ابواب الحدود و فيه: «قال والدي رحمه الله في وصيته الى..»، و ص 502 باب المواريث، و ص 506 باب المواريث، و ص 541 باب النوادر.

3 – الهداية: ص 24 باب غسل الميت، و ص 46 باب رقم 92.

4 – علل الشرائع 1: 307/1 ب 256، و 2: 437/2 ب 175.

5 – ثواب الاعمال: 42 بعد الحديث 7 في ثواب تقليم الاظافر.

6 – الخصال 1: 333/32 باب الستة تحت عنوان: (من السنة التوجه في ست صلوات)، و 2: 521 بعد الحديث 10 ابواب العشرين و ما فوقه تحت عنوان: (صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بخمس و عشرين درجة).

هذا آخر ما وقفت عليه في كتب الصدوق من النقل المباشر عن الرسالة مع تصريحه بذلك، اما الموارد التي نقلها من الرسالة و لم يصرح بالنقل منها، فقد تكون كثيرة، و استقصاؤها يتطلب وقتا طويلا، و اليك بعضها: جاء في الهداية ص 21 قوله: «و لا باس بتبعيض الغسل، تغسل يديك…». و هذا الكلام نسبه الصدوق في الفقيه الباب 38 الى رسالة ابيه، و كذلك قوله في الهداية ص 21: «الجنب اذا عرق ثوبه…»

فقد نسبه في المقنع في ابواب الطهارة الى رسالة ابيه، و في الهداية ايضا ص 34 باب 55 من ابواب الصلاة فقد نقله بالكامل عن الرسالة كما صرح به في باب الصلاة على الميت في الفقيه، و في الهداية ص 12 في وصف دين الامامية (ملحق بآخر كتاب الهداية) فان ما ذكره في وقت اخراج الفطرة، فقد نسبه في الفقيه الباب 209 الى رسالة ابيه. و من هنا تظهر اهمية الرسالة فقهيا عند ولده الصدوق، قال المجلسي الاول رحمه الله: «ان الصدوق يعتبر رسالة ابيه بمنزلة النص; لانه لم ينقل من غير النصوص، و لا يعمل بغيرها، و لهذا وزع هذه الرسالة في الكتاب [اي: كتاب الفقيه] و نقل منها في كل باب سطرا بالرغم من وجود الاخبار المؤيده». و قال العلامة التستري: «و كثيرا ما يعقد الفقيه الباب و ينقل فيه كلام ابيه بعوض الاخبار، و قد استند الى كلامه في الرسالة الشيخ في موضوع التكبيرات الافتتاحية. و قد صرح الشهيد الاول قدس سره باعتماد الاصحاب على رسالة علي بن بابويه القمي، فقال: «كان الاصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع الشيخ ابي الحسن بن بابويه رحمه الله عند اعواز النصوص لحسن ظنهم به، و ان فتواه كروايته».

و قال الشيخ المجلسي: «و علماؤنا يعدون فتاواه من جملة الاخبار». و يؤكد هذا ما قاله الشيخ الطوسي قدس سره في موردين: قال في احدهما: «قال الشيخ رحمه الله [يعني الشيخ المفيد قدس سره]: و لا يجوز لاحد ان يصلي و عليه قباء مشدود الا ان يكون في الحرب فلا يتمكن من ان يحله فيجوز ذلك للاضطرار» ثم عقب عليه بقوله: «ذكر ذلك علي بن الحسين بن بابويه و سمعناها من الشيوخ مذاكرة، و لم اعرف به خبرا مسندا». و قال في الآخر: «ثم قال : [يعني الشيخ المفيد قدس سره] و يستحب التوجه بسبع تكبيرات في سبع صلوات … و المراة تتضمم في صلاتها». ثم عقب عليه بقوله: «ذكر ذلك علي بن الحسين بن بابويه في رسالته و لم اجد به خبرا مسندا». و هذا يعني ان الافتاء بالموردين مع عدم العثور على حديث مسند دال على انزال الشيخ الطوسي قدس سره لفتاوى علي بن بابويه منزلة الاخبار، اذ لا يجوز التقليد على الفقهاء. و اعتبار فتاواه بمنزلة الاخبار لم يكن جزافا و انما عن استقراء و شهادة، اما عن الاستقراء فلا يضره تخلف فتوى او فتويين، اذ يحتمل غياب الدليل في ذلك، و اما عن الشهادة فلتصريح علي بن بابويه في مقدمة رسالته بهذا، قال فيها مخاطبا ولده الصدوق: «… فخذها عني راغبا، و تمسك بها راشدا و عها حافظا فقد اديتها اليك عن ائمة الهدى مؤثرا ما يجب استعماله و حاذفا من الاسناد ما يثقل حمله…». و بناء عليه، فلا يرد على الشيخ ما اورده العلامة (رضي الله تعالى عنهما) اذ قال: «و قوله: لم اجد به حديثا مسندا ينافي الفتوى به اذ لا دليل عقلي عليه».

كما تظهر اهمية الرسالة من الناحية الفقهية من خلال ما اورده المحقق الحلي في كتابه المعتبر، فقد قال في الفصل الرابع منه: «لما كان فقهاؤنا (رضوان الله عليهم) في الكثرة الى حد يتعسر ضبط عددهم، و يتعذر حصر اقوالهم; لاتساعها و انتشارها، و كثرة ما صنفوه…» ثم عد جماعة من اهل الفتيا ممن اختار النقل من كتبهم، و عد الشيخ علي بن بابويه من جملتهم. كما وجدنا الشيخ ابن ادريس الحلي يكثر من بيان موافقة فتاوى كبار الفقهاء – كعلي بن بابويه – لما يفتي به في السرائر مخالفا لفتاوى غيره من الفقهاء و من ذلك ما اورده في السرائر، فقد قال ما نصه: «فاما اذا ماتت فيها عقرب او وزغة فلا ينجس، و لا يجب ان ينزح منها شي‏ء بغير خلاف من محصل، و لا يلتفت الى ما يوجد في سواد الكتب» ثم اعتذر عمن افتى بخلاف ذلك بانه انما اورده على جهة الرواية بحيث لا يشذ من الاخبار شي‏ء دون تحقيق العمل عليه الى ان قال: «و ابن بابويه في رسالته يذهب الى ما اخترناه من انه لا ينزح من موت العقرب في البئر شي‏ء». و اعتذار ابن ادريس في هذا الكلام – كما مر – يفيد الى حد ما بان علي بن بابويه كان في نظر ابن ادريس محققا فيما يفتي به من الاخبار مميزا بين صحيحها و ضعيفها على الاقل فيما يرتبط بالاخبار الواردة في نجاسة البئر و تطهيرها.

على ان ما افتى به ابن بابويه انما هو على طبق ما ورد في الصحيح عن ابن مسكان عن الامام الصادق(ع) انه قال: «و كل شي‏ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و اشباه ذلك فلا باس». كما قال ابن ادريس في موضع آخر: «و ما اخترناه مذهب الشيخ الصدوق، و علي بن بابويه في رسالته». و من راجع مختلف الشيعة، و منتهى المطلب يجد الكثير من نصوص الرسالة الموافقة لفتاوى العلامة الحلي (قدست نفسه الزكية) مع مناقشته احيانا ادلتها الفقهية كما سياتي في محله.

مميزات الرسالة و منهجها:

حاول الشيخ علي بن بابويه (رحمه الله تعالى) ان يجمع مسائل الفقه و يختصرها و يهذبها و ينظمها برسالة موجزة الى ولده الصدوق. فالبحث الفقهي في الرسالة لم يتجاوز – في الغالب – حدود الفروع الفقهية المقتبسة من احاديث الاحكام الواردة عن ائمة الهدى، هذا الى جانب استعانته بشعر العرب على توضيح بعض المفردات اللغوية الواردة في النصوص، مع الاحتجاج بعموم القران الكريم و بعض الاصول العملية، و الاجتهاد في تقرير دلالة الالفاظ على نوعية الحكم، كما سنبين لكل بمثال. و المهم في ذلك انه لم يفرع في الرسالة تفريعات فقهية كثيرة، بمعنى انها لم تستوعب جميع مسائل الفقه، بل اقتصرت على تطبيق النصوص المختارة على مواردها، و كدليل عليه حكم غسل الوجه و اليدين في الوضوء للمرة الثانية، فاكثر العلماء على استحبابه بينما لم يذكره علي بن بابويه كما في مختلف الشيعة.

و من مميزات الرسالة المهمة ابتكار الصدوق الاول لطرح الاسانيد فيها لئلا يثقل حملها كما مر في نص كلامه قدس سره، و هو اول من ابتكر تلك الطريقة في رسالته. قال المحدث النوري:

«و في مجموعة الشهيد: ذكر الشيخ ابو علي ابن شيخنا الطوسي ان اول من ابتكر طرح الاسانيد و جمع بين النظائر و اتى الخبر مع قرينة علي بن بابويه في رسالته الى ابنه، قال: و رايت جميع من تاخر عنه يحمد طريقته فيها و يعول عليه في مسائل لا يجد النص عليها لثقته و امامته و موضعه من العلم و الدين».

الاحتجاج بعموم القران:

افتى علي بن بابويه رحمه الله فيما اذا وجد المصلي على ثوبه بقعة من الدم من غير الدماء الثلاثة، و من غير دم نجس العين او القروح او الجروح اللازمة و كان قدرها بقدر الدرهم البغلي بوجوب الازالة محتجا بعموم قوله تعالى: (و ثيابك فطهر) و ما قل عن الدرهم البغلي، فلا تجب الازالة، فهو قد ترك فيما نقص عن الدرهم للمشقة و عدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الامر بازالته، و قد وافقه على ذلك ابنه الصدوق و ابن البراج و ابن ادريس، و هو الذي اختاره سلار.

الاجتهاد في تقرير دلالة الالفاظ على نوعية الحكم:

في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر(ع) انه قال: «اذا كانت المراة طامثا فلا تحل لها الصلاة، و عليها ان تتوضا وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة، ثم تقعد في موضع طاهر فتذكر الله عزوجل و تسبحه و تهلهل و تحمده بمقدار صلاتها، ثم تفرغ لحاجتها». و قد اعتمد علي بن بابويه في رسالته على هذا الخبر فقال عن الحائض: «و يجب عليها عند حضور كل صلاة ان تتوضا وضوء الصلاة و تجلس مستقبلة القبلة و تذكر الله بمقدار صلاتها كل يوم».

و قد صرح العلامة بانه احتج بلفظة (و عليها ان تتوضا) الواردة في الخبر، بانها دالة على الوجوب. و قد منعه العلامة; لان المندوب يصدق عليه انه على الانسان، او تقول: الحكم عليه سواء كان بواجب او ندب، و قال بالاستحباب و هو المشهور.

العمل بمطلقات الاخبار:

في الصحيح عن محمد بن مسلم قال: «سالت ابا عبدالله(ع) عن التيمم فضرب كفيه الارض ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب شماله الارض فمسح بها مرفقه الى اطراف الاصابع واحدة على ظهرها و واحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الارض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه…». و قد افتى علي بن بابويه في عدد الضربات في التيمم على طبق هذا الخبر، بينما المشهور هو الاكتفاء بالضربة الواحدة للوجه و اليدين معا، و الفقهاء لم يعملوا بهذا الخبر لكونه مطلقا بينما الاحاديث الدالة على راي المشهور مفصلة، فحملوا الخبر عليها جمعا بين الادلة.

استشهاده بالشعر العربي مع ضبطه لبعض المفردات:

قال في السرائر في عدم جواز التقصير في الصلاة للمكاري و الاشتقان – و هو الامين الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر -: «و قال ابن بابويه في رسالته: و المكاري و الكري [واحد]، فالكري هو المكاري، فاللفظ مختلف و ان كان المعنى واحدا، قال عذافر الكندي:
لو شاء ربي لم اكن كريا
و لم اسق بشعفر المطيا

الشعفر:

بالشين المعجمة، و العين غير المعجمة، و الفاء و الراء غير المعجمة، اسم امراة من العرب. بصرية تزوجت بصريا يطعمها المالح و الطريا تخاله اذا مشى خصيا من طول ما قد حالف الكرسيا و الكري: من الاضداد، قد ذكره ابو بكر الانباري في كتاب الاضداد، يكون بمعنى المكاري، و يكون بمعنى المكتري. و قال ابن بابويه ايضا في رسالته: و لا يجوز التقصير للاشتقان، بالشين المعجمة، و التاء المنقطة من فوقها نقطتين، و القاف و النون، هكذا سمعنا على من لقيناه و سمعنا عليه من الرواة و لم يبينوا لنا ما معناه». ثم نقل ابن ادريس – بعد ذلك – معنى الاشتقان عن كتاب الحيوان للجاحظ، فدل نقله على كون ما تقدم كله من كلام علي بن بابويه في رسالته، و لعله اول من تعرض من فقهاء عصر الغيبة الصغرى لضبط المفردات اللغوية على النحو المذكور.

الاحتجاج بالاصول العملية:

قال العلامة قدس سره في المختلف – في صلاة العيدين -: «قال علي بن بابويه اذا صليت بغير خطبة صليت اربع ركعات بتسليمة … الى ان قال – احتج ابن بابويه باصالة براءة الذمة من التسليم و تكبيرة الافتتاح، و قد عد هذه الفتوى في جامع المقاصد من الفتاوى التي لم ينقل لها دليل.

وقفة مع بعض فتاوى الصدوق الاول:

افتاؤه بوقت افطار الصائم:

قال علي بن بابويه في رسالته: «يحل لك الافطار اذا بدت لك ثلاثة انجم، و هي تطلع مع غروب الشمس». قال الشيخ الصدوق بعد ان اورد هذا من الرسالة:

وهي رواية ابان عن زرارة عن ابي جعفر(ع). اقول: هذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب بسند صحيح عن ابان، عن زرارة قال: «سالت ابا جعفر(ع) عن وقت افطار الصائم؟ قال: حين يبدو ثلاثة انجم…». الا ان الشيخ عقب عليها بقوله: «ما تضمنه هذا الخبر من ظهور ثلاثة انجم لا يعتبر به، و المراعى ما قدمناه من سقوط القرص، و علامته زوال الحمرة من ناحية المشرق، و هذا كان يعتبره اصحاب ابي الخطاب لعنهم الله» و قد اجاب العلامة عن خبر زرارة هذا فقال: «لعله اشار بذلك الى حالة الاشتباه لوجود الغيم او غيره».

افتاؤه بحد الوجه في التيمم:

المشهور عند فقهائنا مسح الوجه في التيمم بالنص و الاجماع، و اختلفوا في تقديره فاكثر علمائنا على ان حد الوجه هنا من قصاص الشعر الى طرف الانف، بينما قال علي بن بابويه بالاستيعاب كالغسل في الوضوء و نقل السيد المرتضى في الناصريات الاجماع على الاول، و قد وردت روايات تدل على ما قاله علي بن بابويه، و اكثرها ضعيفة الاسناد، اعرض عنها الاصحاب كما صرح بذلك المحقق الكركي كما ان القول بالاستيعاب، اي مسح جميع الوجه في التيمم هو مذهب اهل السنة. و نظير هذه الفتوى قوله في التيمم ايضا بوجوب استيعاب مسح اليدين الى المرفقين كالغسل، مع ان فتوى اكثر فقهائنا في ان القدر الذي يمسح من اليدين هو من الرسغ الى اطراف الاصابع.

فتاوى نادرة:

قال في قاموس الرجال: «و له فتاوى شاذة في الفقه، و منها في احكام السهو في الصلاة و الشك في ركعاتها، كما لا يخفى على من راجع المختلف، و من اشذ فتاويه قوله في نصابي الذهب بانهما اربعين اربعين، فانه وان ورد بما قاله خبر، الا ان الحلي قال انه على خلاف اجماع المسلمين».

و يقصد بالحلي صاحب السرائر، فقد قال في باب المقادير التي تجب فيها الزكاة و كمية ما تجب: «و قال بعض اصحابنا و هو ابن بابويه في رسالته: انه لا يجب في الذهب الزكاة حتى يبلغ اربعين مثقالا. و هذا خلاف اجماع المسلمين». و من ذلك ايضا ما حكاه ابن ادريس الحلي عنه ايضا قال: «و الخمر نجس بلا خلاف، و لا تجوز الصلاة في ثوب ولا بدن اصابه منها قليل ولا كثير الا بعد ازالتها مع العلم بها، و قد ذهب بعض اصحابنا في كتاب له و هو ابن بابويه الى ان الصلاة تجوز في ثوب اصابه الخمر قال: لان الله حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب اصابته، معتمدا على خبر روي. هذا و قد اكد ابن ادريس على ان هذه الفتيا الصادرة عن ابن بابويه مخالفة لاجماع المسلمين. و من فتاواه المخالفة لما عليه المذهب، ما حكاه في جامع المقاصد في الاحكام المعنوية من ذهاب الشيخ علي بن بابويه الى ان السهم هو السدس، بينما السهم عند اكثر الفقهاء هو الثمن، قال: و هذا عليه المذهب. اقول: ان هذه الوقفة مع فتاوى الشيخ علي بن بابويه لا بد منها رحمه الله لكي لا تفسر اكيات الثناء عليه في هذا البحث بغير واقعها، فتحمل على المبالغة، و توسم بعدم الدقة و الموضوعية، مؤكدين على اجماع الشيعة برمتهم على انه لا يوجد في قاموسهم كتاب – غير كتاب الله عز وجل – قد استوفى التكامل، كما ادعى غيرهم، ما دامت تلك الكتب صادرة عن عقل غير معصوم. و هذا لا يضر بالعظماء اذا ما لوحظ التركيز على الجانب العلمي الذي تبينت من خلاله سبل الابتكار في طرح المادة العلمية بعد عصر النص مباشرة بما يكشف عن اصالتها و حيويتها الى اليوم.

جمل الثناء عليه:

للشيخ علي بن بابويه قدس سره الشريف منزلة عالية في نفوس سائر مترجميه كما تنبى جملهم في الثناء عليه، اذ كان – كما يبدو من ذكره العطر – من المراجع العظام في الفقه و الحديث في مدينته قم المشرفة بلا منازع. و الذي يدل على سمو مكانته، و رفيع مقامه ما اشتهر بين علماء الشيعة منذ قرون متعاقبة من تزكية امام معصوم له، كما يتضح هذا من رسالة سيدنا الامام الحسن العسكري(ع) اليه، و اليك نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، و الجنة للموحدين، و النار للملحدين، و لا عدوان الا على الظالمين، و لا اله الا الله احسن الخالقين، و الصلاة على خير خلقه محمد و عترته الطاهرين.. اما بعد:
اوصيك يا شيخي و معتمدي ابا الحسن علي بن الحسين القمي، وفقك الله لمرضاته و جعل من صلبك اولادا صالحين برحمته، بتقوى الله، و اقام الصلاة، و ايتاء الزكاة، فانه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة، و اوصيك بمغفرة الذنب، و كظم الغيظ، و صلة الرحم، و مواساة الاخوان و السعي في حوائجهم في العسر و اليسر، و العلم عند الجهل، و التفقه في الدين، و التثبت في الامور، و التعهد للقران، و حسن الخلق، و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، قال الله عز وجل: (لا خير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس)، و اجتناب الفواحش كلها، و عليك بصلاة الليل فان النبي(ص) اوصى عليا(ع) فقال: «يا علي عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل»، و من استخف بصلاة الليل فليس منا. فاعمل بوصيتي، و امر جميع شيعتي حتى يعملوا بها، و عليك بالصبر و انتظار الفرج، فان النبي صلى الله عليه و اله قال: «افضل اعمال امتي انتظار الفرج»، و لا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي(ص) حيث قال:

«انه يملا الارض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا». فاصبر يا شيخي، و امر جميع شيعتي بالصبر، فان الارض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين، و السلام عليك و رحمة الله و بركاته، و حسبنا الله و نعم المعين و نعم المولى و نعم النصير». قال في روضات الجنات بعد ان اورد الرسالة: «و قال بعض الاعاظم – بعد ذكره لذلك -: و هذه الرسالة اذا صحت دلت على عظم شان علي المذكور، و الله اعلم». اقول: لو لم يكن علي بن بابويه رضي الله تعالى عنه اهلا للرسالة بنظر اعلام الشيعة لرفضوها رفضا قاطعا، ولكنهم وجدوه اهلا لها فتلقوها بالقبول، و ما تقدم في اوائل البحث لا يعني التشكيك في صحة صدورها، بل يعني اثارة ما يمكن ان يوجه لها من نقد لتحظى بمزيد من البحث و التحقيق لاهميتها. و على اية حال فان موقف علماء الشيعة من هذا الرجل العظيم يتسم بكل اجلال و تعظيم كما سيتضح من:

الثناء عليه ببعض كتب الشيعة:

قال النجاشي (ت/۴۵۰ه ): «علي بن الحسين بن بابويه القمي، ابو الحسن، شيخ القميين في عصره، و متقدمهم، و فقيههم، و ثقتهم». و قال شيخ الطائفة (ت/۴۶۰ه ): «علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، كان فقيها جليلا ثقة، و له كتب كثيرة»، و قال ايضا: «ثقة، له تصانيف ذكرناها في الفهرست». و قال الشيخ حسن ابو علي ابن شيخ الطائفة الملقب بالمفيد الثاني (ت/۵۱۵ه ) معللا قبول من تاخر عنه لرسالته الفقهية: «… لثقته، و امامته، و موضعه من العلم و الدين». و قال الشيخ ابن ادريس الحلي (ت/۵۹۸ه ) في حكم بيع الواحد بالاثنين مع اختلاف الجنس: «…بل جلة اصحابنا المتقدمين، و رؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم الله لم يتعرضوا لذلك، بل افتوا و صنفوا…» ثم ذكر جملة من كبار العلماء و عد علي بن بابويه في طليعتهم. و نظير هذا الوصف ما ذكره المحقق الحلي (ت/۶۷۶ه ) في كتاب المعتبر، و قد تقدم، و قال ابن داود الحلي (ت/۷۰۷ه ):

«.. . الفقيه الجليل المعظم، الثقة، الورع، المصنف». و اورده العلامة الحلي (ت/۷۲۷ه ) في القسم الاول من رجاله المعد للثقات المعتمد عليهم و نقل قول النجاشي المتقدم – في ترجمته. و وصفه الشهيد الاول (ت/۷۸۶ه ) في اجازته للخازن ب : (الامام). و قال المجلسي (ت/۱۱۱۱ه ) في الفصل الاول في بيان مصادر البحار: «و كتاب الامامة و التبصرة من الحيرة للشيخ الاجل ابي الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه والد الصدوق طيب الله تربتهما». و قال في الفصل الثاني في توثيق تلك المصادر: «و كتاب الامامة مؤلفه من اعاظم المحدثين و الفقهاء، و علماؤنا يعدون فتاواه من جملة الاخبار». و قال الافندي (من علماء القرن الثاني عشر الهجري): «العالم الكامل الجليل المحدث المعروف بعلي بن بابويه، والد شيخنا الصدوق محمد، و قد يعرف بابي الحسن مطلقا» و قال السيد الاعرجي (ت/۱۲۲۷ه ): «من مشايخ الطائفة و ثقاتها و عظمائها». و قال السيد الخوانساري (ت/۱۳۱۳ه ): «الشيخ الفقيه، الثقة الوجيه، المعتمد عليه، ابو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، والد شيخنا الصدوق القمي، و استاذه الذي تلمذ لديه، و صاحب الرسالة المعروفة، ينقل عنها في كتاب من لا يحضره الفقيه، كان من اجلاء فقهاء الاصحاب، و الادلاء على صراط ال محمد الانجاب الاطياب، غيورا في امر الدين، مدمر اساس الملحدين، معظما من مشايخ الشيعة، مفخما من اركان الشريعة، صاحب كرامات و مقامات، و مساعي و انتظامات، و حسب النهاية على دلالة فضله و غاية جلالته، التوقيع الذي خرج اليه من حضرة مولانا الامام العسكري(ع)، بنقل صاحب الاحتجاج و غيره…».

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، و الجنة للموحدين، و النار للملحدين، و لا عدوان إلا على الظالمين، و لا إله إلا الله أحسن الخالقين، و الصلاة على خير خلقه محمد و عترته الطاهرين.. أما بعد:
أوصيك يا شيخي و معتمدي أبا الحسن علي بن الحسين القمي، وفقك الله لمرضاته و جعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته، بتقوى الله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، فإنه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة، و أوصيك بمغفرة الذنب، و كظم الغيظ، و صلة الرحم، و مواساة الإخوان و السعي في حوائجهم في العسر و اليسر، و العلم عند الجهل، و التفقه في الدين، و التثبت في الأمور، و التعهد للقرآن، و حسن الخلق، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، قال الله عز وجل: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)، و اجتناب الفواحش كلها، و عليك بصلاة الليل فإن النبي(ص) أوصى علياً(ع) فقال: «يا علي عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل»، و من استخف بصلاة الليل فليس منا. فاعمل بوصيتي، و أمر جميع شيعتي حتى يعملوا بها، و عليك بالصبر و انتظار الفرج، فإن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»، و لا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي(ص) حيث قال:

«إنه يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً». فاصبر يا شيخي، و أمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين، و السلام عليك و رحمة الله و بركاته، و حسبنا الله و نعم الوكيل و نعم المولى و نعم النصير».

قال في روضات الجنات بعد أن أورد الرسالة: «و قال بعض الأعاظم – بعد ذكره لذلك -: و هذه الرسالة إذا صحت دلت على عظم شأن علي المذكور، و الله أعلم».
أقول: لو لم يكن علي بن بابويه رضي الله تعالى عنه أهلاً للرسالة بنظر أعلام الشيعة لرفضوها رفضاً قاطعاً، ولكنهم وجدوه أهلاً لها فتلقوها بالقبول، و ما تقدم في أوائل البحث لا يعني التشكيك في صحة صدورها، بل يعني إثارة ما يمكن أن يوجه لها من نقد لتحظى بمزيد من البحث و التحقيق لأهميتها. و على أية حال فإن موقف علماء الشيعة من هذا الرجل العظيم يتسم بكل إجلال و تعظيم كما سيتضح من:

الثناء عليه ببعض كتب الشيعة:

قال النجاشي (ت/۴۵۰ه ): «علي بن الحسين بن بابويه القمي، أبو الحسن، شيخ القميين في عصره، و متقدمهم، و فقيههم، و ثقتهم».
و قال شيخ الطائفة (ت/۴۶۰ه ): «علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، كان فقيهاً جليلاً ثقة، و له كتب كثيرة»، و قال أيضاً: «ثقة، له تصانيف ذكرناها في الفهرست».
و قال الشيخ حسن أبو علي ابن شيخ الطائفة الملقب بالمفيد الثاني (ت/۵۱۵ه ) معللاً قبول من تأخر عنه لرسالته الفقهية: «… لثقته، و إمامته، و موضعه من العلم و الدين».
و قال الشيخ ابن إدريس الحلي (ت/۵۹۸ه ) في حكم بيع الواحد بالاثنين مع اختلاف الجنس: «…بل جلة أصحابنا المتقدمين، و رؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم الله لم يتعرضوا لذلك، بل أفتوا و صنفوا…» ثم ذكر جملة من كبار العلماء و عد علي بن بابويه في طليعتهم.
و نظير هذا الوصف ما ذكره المحقق الحلي (ت/۶۷۶ه ) في كتاب المعتبر، و قد تقدم، و قال ابن داود الحلي (ت/۷۰۷ه ):

«… الفقيه الجليل المعظم، الثقة، الورع، المصنف».
و أورده العلامة الحلي (ت/۷۲۷ه ) في القسم الأول من رجاله المعد للثقات المعتمد عليهم و نقل قول النجاشي المتقدم – في ترجمته.
و وصفه الشهيد الأول (ت/۷۸۶ه ) في إجازته للخازن ب : (الإمام).
و قال المجلسي (ت/۱۱۱۱ه ) في الفصل الأول في بيان مصادر البحار: «و كتاب الإمامة و التبصرة من الحيرة للشيخ الأجل أبي الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه والد الصدوق طيب الله تربتهما».
و قال في الفصل الثاني في توثيق تلك المصادر: «و كتاب الإمامة مؤلفه من أعاظم المحدثين و الفقهاء، و علماؤنا يعدون فتاواه من جملة الأخبار».
و قال الأفندي (من علماء القرن الثاني عشر الهجري): «العالم الكامل الجليل المحدث المعروف بعلي بن بابويه، والد شيخنا الصدوق محمد، و قد يعرف بأبي الحسن مطلقاً».
و قال السيد الأعرجي (ت/۱۲۲۷ه ): «من مشايخ الطائفة و ثقاتها و عظمائها».
و قال السيد الخوانساري (ت/۱۳۱۳ه ): «الشيخ الفقيه، الثقة الوجيه، المعتمد عليه، أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، والد شيخنا الصدوق القمي، و استاذه الذي تلمذ لديه، و صاحب الرسالة المعروفة، ينقل عنها في كتاب من لا يحضره الفقيه، كان من أجلاء فقهاء الأصحاب، و الأدلاء على صراط آل محمد الأنجاب الأطياب، غيوراً في أمر الدين، مدمر أساس الملحدين، معظماً من مشايخ الشيعة، مفخماً من أركان الشريعة، صاحب كرامات و مقامات، و مساعي و انتظامات، و حسب النهاية على دلالة فضله و غاية جلالته، التوقيع الذي خرج إليه من حضرة مولانا الإمام العسكري(ع)، بنقل صاحب الاحتجاج و غيره…».

و قال خاتمة المحدثين الشيخ النوري (ت/۱۳۲۰ه ): «الشيخ الأقدم، و الطود الأشم أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، العالم، الفقيه، المحدث، الجليل، صاحب المقامات الباهرة، و الدرجات العالية التي تنبى عنها مكاتبة الإمام العسكري(ع) و توقيعه الشريف إليه…».

و قال السيد حسن الصدر (ت/۱۳۵۴ه ): في بيانه لأئمة علم التفسير و التأويل: «و منهم: علي بن بابويه والد الشيخ الصدوق كان شيخ الشيعة بقم يكنى أبا الحسن، علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه .. و أنه ممن كاتبه مولانا أبو محمد العسكري، و له كرامات و حكايات مذكورة في المطولات، صنف الكتب، منها: كتاب التفسير…».

و قال الشيخ عباس القمي (ت/۱۳۵۹ه ): «كان شيخ القميين في عصره و فقيههم و ثقتهم، و كفى في فضله ما في التوقيع المنقول عن الإمام العسكري(ع): أوصيك يا شيخي و معتمدي و فقهي يا أبا الحسن .. إلى آخره».

الثناء عليه في كتب السنة:

لم يترجم للشيخ علي بن بابويه إلا القلائل من علماء أهل السنة، بل و حتى الخطيب البغدادي الذي حاول في تاريخه ذكر علماء بغداد و من قدم إليها لم يذكر – من فرط تعصبه – شيخنا علي بن بابويه على الرغم من قدومه إلى بغداد أكثر من مرة، بل لم يذكر ثقة الإسلام الكليني الذي مات و دفن في بغداد!
و المهم هنا، هو أن جميع من ذكره منهم فقد أطراه.
قال الذهبي (ت/۷۴۸ه ) في ترجمة ولده الصدوق: «ابن بابويه، رأس الإمامية أبو جعفر محمد بن العلامة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي…».

فهو جدير بلقب (العلامة) عند الذهبي، و هذا اعتراف صريح منه بعلمه و فقهه، مع أن هذا اللقب لم تطلقه الشيعة عليه، فلاحظ.
و قال ابن النديم (ت/۳۸۵ه ): «ابن بابويه: و اسمه علي بن الحسين بن موسى القمي، من فقهاء الشيعة و ثقاتهم، قرأت بخط ابنه أبي جعفر محمد بن علي على ظهر جزء: قد أجزت لفلان ابن فلان كتب أبي علي بن الحسين و هي مئتا كتاب و كتبي و هي ثمانية عشر كتاباً».
كما ترجم له البغدادي الباباني (ت/۱۳۳۹ه ) في هدية العارفين فقال: «ابن بابويه: علي بن الحسن [كذا] بن موسى بن بابويه أبو الحسن القمي من علماء الشيعة، توفي سنة ۳۲۹ تسع و عشرين و ثلاثمائة. له من التصانيف: أملاء النوادر، تبصرة الحيرة…». ثم عدد بقية كتبه.
كما ترجم له خير الدين الزركلي الوهابي (ت/۱۹۷۶م)، فقال: «ابن بابويه: علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، أبو الحسن القمي، شيخ الإماميين بقم في عصره، مولده و وفاته فيها، له كتب في التوحيد و الإمامة و التفسير و رسالة في الشرائع، و غير ذلك».

وفاته و مكان وفاته:

قال النجاشي: «و مات علي بن الحسين سنة تسع و عشرين و ثلاثمائة، و هي السنة التي تناثرت فيها النجوم، و قال جماعة من أصحابنا: سمعنا أصحابنا يقولون: كنا عند أبي الحسن علي بن محمد السمري رحمه الله فقال: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه، فقيل له: هو حي! فقال: إنه مات في يومنا هذا. فكتب اليوم، فجاء الخبر بأنه مات فيه».
و قد روى هذا الخبر الشيخ في كتاب الغيبة بسنده عن أبي عبدالله أحمد بن إبراهيم بن مخلد قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، و الجنة للموحدين، و النار للملحدين، و لا عدوان إلا على الظالمين، و لا إله إلا الله أحسن الخالقين، و الصلاة على خير خلقه محمد و عترته الطاهرين.. أما بعد:

«حضرت بغداد عند المشايخ رحمهم الله فقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري قدس سره ابتداء منه: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي». قال: فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم. و مضى أبو الحسن السمري رضي الله عنه بعد ذلك في النصف من شعبان سنة تسع و عشرين و ثلاثمائة».
و قد أخرجه من طريق آخر أيضاً. كما أخرج خبراً عن أبي نصر هبة الله بن محمد الكاتب ذكر فيه أن السمري (رضي الله تعالى عنه) مات سنة ۳۲۹ه.

و الحاصل من كل هذا: أن سنة وفاة علي بن بابويه و السمري قدس سرهما هي سنة ۳۲۹ه و هي توافق عدد (يرحمه الله) كما يأتي:
۱۰ + ۲۰۰ + ۸ + ۴۰ + ۵ + ۱ + ۳۰ + ۳۰ + ۵ = ۳۲۹
ي + ر + ح + م + ه + ا + ل + ل + ه = يرحمه الله

ولكن قد يشكل على هذا – وهو الموافق لقول النجاشي – على الرغم من كونه هو المتفق عليه بين سائر علماء الشيعة تقريباً، بأن خبر الشيخ في كتاب الغيبة الذي أخرجه عن أحمد بن إبراهيم بن مخلد قد أخرجه الصدوق في كمال الدين عنه أيضاً و بلا اختلاف يذكر سوى ما ورد في آخره إذ قال: «و مضى أبو الحسن السمري رحمه الله في النصف من شعبان سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة».
و الصدوق رواه عن أحمد بن إبراهيم بواسطة واحدة، و الشيخ بواسطتين، و الصدوق معاصر لسنة الوفاة و الشيخ قريب منها، و لا يحصل التصحيف بين (ثمان) و (تسع) و تحريف أحدهما – سهواً – إلى الآخر بعيد، و موافقة قول النجاشي للشيخ لا يلغي أهمية قول الصدوق لتقدمه عليها، و على هذا سيكون تاريخ وفاة الشيخ علي بن بابويه ليس هو ما أخبر به النجاشي على الرغم من شهرته، هذا أولاً.

و ثانياً: أن سنة تناثر النجوم لم تذكر في وقائع سنة ۳۲۹ه في كتب التاريخ التي ركزت على بيان حوادث و وقائع التاريخ بحسب السنين – بل السنة القريبة من هذا التاريخ التي وقع فيها التناثر – الذي تكرر وقوعه في عدة قرون كما في كتب التاريخ – هي سنة ۳۲۳ه و هي السنة نفسها التي خرج فيها أبو طاهر القرمطي على الحاج العراقيين، فقد ذكر ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة (۳۲۳ه ) خروج الحاج و تعرضهم إلى أبي طاهر بن أبي سعيد الجنابي القرمطي و أنه أكثر فيهم القتل و النهب و رجع من سلم منهم إلى بغداد، قال:

«و بطل الحج في هذه السنة» و قد حدد تاريخ هجوم أبي طاهر على الحاج بالضبط، وذلك في سحر يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، ثم قال: «و في هذه الليلة بعينها انقضت النجوم ببغداد من أول الليل إلى آخره، و بالكوفة أيضاً، انقضاضاً مسرفاً لم يعهد مثله و لا ما يقاربه».
و قال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ۳۲۳ أيضاً: «في هذه السنة خرج الناس إلى الحج فلما بلغوا القادسية [قرب الكوفة و من مسالحها] اعترضهم أبو طاهر القرمطي ثاني عشر ذي القعدة فلم يعرفوه فقاتله أصحاب الخليفة و أعانهم الحجاج ثم التجأوا إلى القادسية، فخرج جماعة من العلويين بالكوفة إلى أبي طاهر فسألوه أن يكف عن الحجاج، فكف عنهم، و شرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد، فرجعوا و لم يحج بهذه السنة من العراق أحد [إلى أن قال] و فيها في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة و هي الليلة التي أوقع القرمطي بالحجاج، انقضت الكواكب من أول الليل إلى آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً جداً لم يعهد مثله».

أقول: و من هنا تتضح عدة أمور مهمة، وهي:

الأول: أن ما ذكره الشيخ في رجاله – و نقلناه عنه فيما تقدم – في ترجمة علي بن بابويه بقوله: «روى عنه التلعكبري قال: سمعت منه في السنة التي تهافتت فيها الكواكب، دخل بغداد فيها»، إنما هي سنة (۳۲۳ه ) و ليس سنة (۳۲۶ه ) كما أشرنا إليه في رحلاته العلمية و أسفاره.

الثاني: أن قول السيد حسن الصدر رحمه الله: «مات علي بن بابويه سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة»، يؤكد ما مر في الأمر الأول، و إن لم يوافقه أحد على هذا التحديد، فهو (رحمه الله) قد علق بذهنه قول النجاشي في اقتران سنة وفاة الشيخ علي بن بابويه بتناثر النجوم و لم يراجع بوقتها ظاهراً، و كان يعلم سنة التناثر فجعلها تاريخاً للوفاة.

الثالث: أن هذه السنة (۳۲۳ه ) هي السنة نفسها التي استأذن فيها الشيخ علي بن بابويه لغرض الحج و ورد المنع أولاً ثم السماح ثانياً مع الأمر بأن يكون في آخر القافلة خوفاً من قتل القرامطة و قد تحقق ذلك فعلاً فعاد سالماً إلى بغداد و لم يكن من حملة ضحايا القرامطة.

الرابع: أن ما ذكره الشيخ الطريحي في مجمع البحرين عن الشيخ البهائي يرحمهما الله تعالى من دخول القرامطة إلى مكة سنة ۳۱۰ه، و أخذهم الحجر الأسود و أنه بقي عندهم عشرين سنة، و أنهم قتلوا خلقاً كثيراً و كان ممن قتلوه علي بن بابويه، و كان يطوف بالبيت فما قطع طوافه فضربوه بالسيف فوقع إلى الأرض و أنشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم
كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
فهو غير صحيح; لأن ذلك وقع في سنة ۳۱۷ه باتفاق جميع من أرخ للقرامطة و ليس في سنة ۳۱۰ه، على أن وقعة القرامطة سنة ۳۱۷ه كانت من أفتك الوقائع; إذ أبيد بها الحاج أثناء الطواف و عروا الكعبة المشرفة من كسوتها و قلعوا بابها و طرحوا القتلى في بئر زمزم، كما هو شأن القرامطة في طول تاريخهم القذر.
و أما ابن بابويه الذي قتل في هذه الحادثة المؤلمة فهو غير شيخنا علي بن بابويه، و هو: «علي بن بابويه الصوفي العامي المعروف بالتصوف أحد من أنكر عليه ابن الجوزي المتوفى سنة ۵۹۷ في كتاب تلبيس إبليس».

هذا، زيادة على أن معظم أسفار شيخنا المعظم و رحلاته المنصوص عليها كانت بعد سنوات عدة من تاريخ فتك القرامطة بالحاج سنة ۳۱۷ه كما تقدم.

أما مكان وفاته رضي الله تعالى عنه فهو في قم المشرفة بالاتفاق، و لا زال قبره إلى الآن فيها و قد زرته مراراً كان آخرها أثناء كتابة هذا البحث، و إليك تحديد موقعه.

موقع قبره الزكي:
يقع قبره الزكي وسط مدينة قم المقدسة على مسافة قريبة من الروضة الشريفة لفاطمة(س) بنت الإمام موسى الكاظم(ع)، و بالضبط يقع في المثلث الحاصل من تقاطع شارعي انقلاب و شارع آية الله السيد المرعشي النجفي قدس سره، و في كل منهما قبل التقاطع مباشرة زقاق يؤدي إليه، و القبر واقع وسط حجرة مربعة مزينة الجدران و تعلوها قبة عالية مطلة على ساحة متصلة بالحجرة و قد كتبت على باب القبر الشريف سورة «و الشمس و ضحاها» كاملة بخط الثلث الجميل، رحم الله شيخنا علي بن بابويه القمي و شكر له سعيه في إعلاء كلمة الحق و حشره مع محمد و آله صلى الله عليهم و سلم.

و الحمد لله رب العالمين

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *